رقمنة المنظومة القضائية

Juin 20, 2022

لعل سؤال ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق في أوج الحرب العالمية الثانية  عن وضع العدالة لم يكن من فراغ فهو كان يعلم جيدا ان مقياس نهضة الأمم أيا كانت ما تتعرض له من انكسارات هو وضع العدالة
و من الناحية الاقتصادية ، فقد وضع البنك الدولي مؤشرات عديدة تضمن جودة العدالة و ذلك بالاستناد على جملة من الممارسات الفضلى في نظام إدارة القضايا و رقمنتها إذ تساعد التصنيفات العالمية على جلب الاستثمار خاصة من وجهة نظر المستثمر الذي يسعى دائما لمعرفة قياس درجة الشفافية و الكفاءة و السرعة المعقولة و النجاعة المطلوبة في تنفيذ الأحكام القضائية ،
و بالتالي فإن السعي إلى تطوير منظومة العدالة من شأنه المساعدة على تعزيز ثقة المستثمرين سواء في الداخل أو في الخارج في قانون الدولة و قضائها .
وفي خضم التحولات الرقمية ، أضحت العدالة الرقمية ركيزة من ركائز تطوير المنظومة القضائية إذ لا يمكن الحديث عن عدالة ناجزة إلا بتحسين جودة الخدمات و تسهيل الوصول إلى المعلومة القضائية إلى كافة المتداخلين في مرفق العدالة سواء العاملين في مرفق العدالة أو المستفيدين منه .
وقد شرعت وزارة العدل بالتعاون مع وزارة تكنولوجيا الاتصالات بإعداد مخطط  » العدالة الرقمية -2016-2020 لتركيز نظام معلوماتي للمنظومة القضائية التونسية و الذي تم إدراجه ضمن المخطط الوطني الاستراتيجي « تونس الرقمية 2020  » الذي يهدف إلى تحسين نجاعة القضاء و تسهيل النفاذ للمنظومة القضائية ، ويقوم هذا المخطط على ثلاثة ركائز أساسية :
1-النفاذ إلى المعلومة من خلال تركيز نظام معلوماتي متطور يقدم خدمات لمختلف المتدخلين و المتعاملين مع المحاكم
2- رقمنة الأحكام و الملفات و إحكام أرشفتها الكترونيا
3- تركيز بنية تحتية عالية الأداء و الجودة تعتمد على  تراسل المعطيات ذات سعة عالية تشمل كافة المحاكم و المؤسسات الراجعة بالنظر لوزارة العدل
ويهدف هذا البرنامج بالأساس إلى تحسين جودة خدمات المرفق القضائي و تسهيل الوصول إلى المعلومة و تحقيق مزيد من ضمانات النزاهة و الشفافية
فماهي الأرضية اللوجستية و القانونية  الموجودة حاليا و التي تكون أساسا لتحقيق عدالة رقمية مستقبلية و مزيد تطويرها ?
تم منذ سنوات إرساء  منظومة إعلامية جزائية و مدنية و التي تتضمن العديد من الخدمات أهمما :
-متابعة القضايا الجزائية و المدنية وهي تشمل جميع المحاكم باختلاف درجاتها عن طريق منظومة E-JUSTICE
-ارشاد المتقاضي حول مدى تقدم و مسار القضايا عبر مكاتب الإرشاد المحدثة بالمحاكم
-استخراج العديد من الوثائق مثل الاستدعاءات ، مناشير التفتيش شهاد الحفظ و غيرها ..
– تحيين الملفات
كما شهدت منظومة السجل التجاري تطورا ملحوظا في السنوات الأخيرة إذ أصبح بالإمكان استخراج نسخة من السجل التجاري و خلاص المعاليم عن طريق الانترنات منذ شهر أفريل سنة 2018 إلى جانب تكوين الشركات عن بعد و ذلك عن طريق إرسال نسخ من الوثاثق التأسيسية للشركة عبر البريد الالكتروني للموقع الالكتروني لوكالة النهوض بالصناعة  ثم تقديم أصولها عند تسلم ما يفيد تأسيسها بعد أخذ موعد في الغرض .
أيضا أصبح بالإمكان القيام بجملة من الخدمات لدى إدارة الملكية العقارية عبر موقع الواب بما في ذلك الحصول على نسخ مجردة للرسوم العقارية و متابعة مراحل دراسة الوثائق المودعة وهو ما يوفر وقتا و جهدا على كافة المتعاملين مع المرفق و يخفف الضغط على أعوان و موظفي الإدارة
و من الناحية القانونية ،  فإنه تجدر الإشارة في هذا الإطار أنه صدر مرسوم عن رئاسة الحكومة عدد 31 لسنة 2020 مؤرخ في 10 جوان 2020 يتعلق بالتبادل الالكتروني للمعطيات عبر الهياكل و المتعاملين معها رقميا بين الهياكل و الذي وضع جملة من الأسس أهمها
-أن  المعطيات التي تنشرها الهياكل على مواقعها الالكترونية لها صبغة رسمية و تكون ملزمة لها كما تمنح الوثائق الالكترونية التي تتعامل بها الهياكل بنفس الحجية القانونية للوثائق المكتوبة
-يمنع على الهياكل أن تطلب من المتعاملين معها تقديم معطيات أو وثائق متوفرة لديها أو متاحة عبر منصة الترابط البيني و هو ما من شأنه تحسين جودة الخدمات و التقليل من كثرة الوثائق الصادرة من مختلف الإدارات باعتبار أن منصة الترابط البيني تتحوز على جملة المعطيات المطلوبة لدى جميع الإدارات و من الأمثلة على ذلك نذكر وثيقة الإبراء (attestation de solde) وهي وثيقة تسلمها مصالح الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي للمشارك في الصفقات العمومية و هي من جملة الوثائق الأساسية لخلاص المتعاقد في مستحقاته إذ بعد صدور هذا المرسوم أصبح بإمكان المصالح المالية بالوزارة التأكد من براء ذمة المتعاقد من أية مبالغ مالية مستحقة تجاه الصندوق بطريقة  رقمية دون حاجة لاستظهاره بهذه الوثيقة لدى مصالحها وهو ما من شأنه أن يقلل من البيروقراطية و يعزز ثقة المستثمر التونسي والأجنبي في الإدارة التونسية .
وجدير بالذكر أنه لظروف متصلة بجائحة كورونا ، صدر مرسوم من رئيس الحكومة عدد 12 لسنة 2020 مؤرخ في 27 افريل 2020 يتعلق بإتمام مجلة الإجراءات الجزائية و الذي أرسى إجراءات المحاكمة  عن بعد للمتهم بواسطة وسائل الاتصال السمعي والبصري مع توفير الشروط الازمة لضمان محاكمة عادلة .
كذلك ، صدر المرسوم عدد 29 لسنة 2020 مؤرخ في 10 جوان 2020 يتعلق بنظام المراقبة الالكترونية في المادة الجزائية وهو يعتبر نص تشريعي ثوري في مادة تنفيذ الأحكام الجزائية إذ مكن المشرع المحكمة أو القاضي بوضع المتهم بعد الافراج عليه أو المحكوم عليه تحت نظام المراقبة الالكترونية وهو ما من شأنه أن يساعد على تخفيف الاكتظاظ في السجون و ضمان نجاعة الأحكام القضائية إلا أن هذا النص بقي في الرفوف ينتظر صدور الأوامر التطبيقية
كذلك ، يتجه التذكير بما تضمنه مشروع مجلة القضاء الاداري بالباب الثاني منها تحت عنوان  » في نظام التقاضي الالكتروني  » والذي تضمن فصول تنظم التقاضي الالكتروني أمام المحكمة الإدارية كما اقترح مشروع القانون إمضاء الأحكام و محاضر الجلسات عن طريق الإمضاء الالكتروني
كما لا يجب أن يفوتنا التذكير أن المنظومة القانونية التونسية وضعت منذ سنوات طويلة مجموعة من النصوص القانونية المتفرقة مثلت لبنة لعدالة رقمية مستقبلية و نذكر على سبيل المثال  1- الفصل 6 من مجلة التحكيم التونسية و التي صدرت سنة 1993 و الذي اعتبر فيها المشرع التونسي اتفاقية التحكيم ثابتة بكتب متى وقع تبادل الوثائق بين الأطراف كالرسائل و التلكسات و البرقيات أو بأية وسيلة اتصال أخرى
2- إقرار الكتب الإلكتروني كوسيلة اثبات بموجب القانون عدد 57 لسنة 2000 و الذي أضاف الفصل 453 مكرر المتعلق بالوثيقة الالكترونية
3- إدراج عقد التجارة الالكترونية بموجب القانون عدد 83 لسنة 2000 المؤرخ في 09 أوت 2000 و المتعلق بالمبادلات و التجارة الالكترونية
4- الفصل 9 من القانون عدد 15 لسنة 2003 المؤرخ في 15 فيفري 2003 المتعلق بإحداث مؤسسة قاضي الضمان الاجتماعي والذي كان ثوريا في تاريخ صدوره عندما المتقاضي من رفع دعواه بواسطة وثيقة الكترونية موثوق بها
لكن ما تم ذكره تشوبه عديد النقائص خاصة مع علمنا بتردي الخدمات الإعلامية سواء بالمحكمة أو عبر منظومة    E- JUSTICE    هذا إلى جانب أنه لا يمكن الحديث عن عدالة رقمية إلا إذا تم تطوير طرق عمل الضابطة العدلية ورقمنتها ولنأخذ على سبيل المثال بطاقة السوابق العدلية التي تطلبها المحكمة كي تكون من أوراق الملف لإصدار حكمها على المتهم إذ يستغرق ذلك أسابيع و أسابيع ويتم تأخير القضية عديد المرات و يبقى المتهم مسجونا إلى حين تنفيذ هذا الحكم التحضيري.
و في إطار برنامج تونس الرقمية الذي اعتمدته وزارة العدل و يدعمه مجلس أوروبا ، يتم الآن بمحاكم تونس الكبرى تنفيذ المشروع التجريبي لمنظومة موحدة تضم كافة البيانات المشتركة و المستعملة من قبل جميع منظومات وزارة العدل و سيمكن هذا البرنامج من رقمنة جميع الوثائق المكونة للملف و متابعته منذ انطلاقه مرورا بجميع درجات التقاضي إلى ختم الملف وتوجيهه إلى الخزينة و استخراج نسخ الأحكام و ذلك في المادة المدنية الجزائية و العقارية علاوة على إحداث منظومة ترابط مع وزارة المالية و التي ستمكن المحامي من تسجيل الحكم مباشرة دون المرور بالمحكمة باعتبار أنه سيصبح بإمكان مصالح القباضة المالية الاطلاع على أصل الحكم عبر منظومة الكترونية  .
ومن ملامح هذا المشروع نذكر على سبيل الذكر لا الحصر
1- اعتماد التوقيع الالكتروني و اسناد شهادات التوقيع الالكتروني للقضاة و كتاب المحكمة و قد تم السعي في اقتناء اكثر من 15 الف امضاء الكتروني للغرض
2- تطوير تطبيقة الكترونية تكون منصة تواصل بين الضابطة العدلية و النيابة العمومية لمتابعة اجال الاحتفاظ بمراكز الشرطة و قد تمت تجربة التطبيقة بالمحكمة الابتدائية بمنوبة مع 7 مراكز شرطة و حرس
3- تطوير منصة الكترونية لإيصال قرارات الماكم للمتقاضين و المحامين
4- رقمنة الاذون على العرائض و مأموريات الاختبار في علاقة مع الخبراء العدليين
5- انشاء منصة للتحقق من صحة ترجمة الوثائق الرسمية بالنسبة للمترجمين عن طريق التثبت من امضاءاتهم الكترونيا
6- تركيز منصة الكترونية تتضمن السوابق العدلية للمتهم
7- انشاء منصة لإيداع الوثائق الرقمية من عرائض و تقارير في القضايا المدنية من قبل المحامين و المتقاضين وهي في طور التجربة في بعض المحاكم النموذجية و هو ما يفترض تنقيح تشريعي للغرض
8- احداث منصة لتبادل التقارير بين محامي الأطراف و المحكمة و هو ما سيمكن من تبادل التقارير الكترونيا j share
تجدر الاشارة أنه صدر بفرنسا الأمر عدد 1524-2009 الصادر بتاريخ 09 ديسمبر 2009 و الذي أسس لمنظومة RPVAالخاصة بالمحامين (réseau prive virtuel d’avocat ) و منظومة RPVJ الخاصة بالمحاكم (réseau privé virtuel de justice ) . هذا الأمر نقح الفصول القانونية المتعلقة باستئناف الدعوى سواء في المادة المدنية أو الجزائية و أصبح الاستئناف بالطريقة الالكترونية و تبعه جملة من التنقيحات لمجلة المرافعات المدنية والتجارية ، إذ أصبح بداية من سنة 2013 استعمال هذه المنظومة اجياريا و التي يتم خلالها تبادل التقارير و المؤيدات والقيام بجميع الإجراءات الجزائية و المدنية الكترونيا .
إن نجاح مسار رقمنة العدالة يقتضي  أن يتم تكوين كافة المتداخلين في المرفق القضائي على الاستعمال الجيد و الامن لجميع الوسائل الرقمية و خاصة المتعلقة منها بالمراسلات و ثانيا إعداد منظومة تخزين امنة لجميع العنوانين الالكترونية و تفعيل منظومة الإمضاء الالكتروني في كافة المعاملات مع المرفق القضائي ، فالإمضاء الالكتروني على غرار الإمضاء اليدوي ، هو طريقة رقمية تمكن من التعريف بالممضي و كذلك من التعبير عن موافقته بخصوص محتوى النص الممضى ، وهو يوفر علاوة على ذلك سلامة الوثائق القانونية الممضاة و عدم إنكارها بناء على شهادة توفرها الوكالة الوطنية للمصادقة الالكترونية و يحظى بنفس القيمة القانونية للإمضاء الخطي بمقتضى القانون عدد 83 لسنة 2000 المؤرخ في 09 أوت 2000 المتعلق بالمبادلات و التجارة الالكترونية فالإمضاء الالكتروني يوفر مناخ من الثقة عبر الانترانت للقيام بالمبادلات و المراسلات
وختاما ، يجب أولا الإشادة بوجود منظومة قانونية متكاملة تكون أرضية صلبة لمنظومة رقمية داخل مرفق العدالة يكون نجاحها بتحقق اربعة  شروط :
– تدعيم البنية التحتية المعلوماتية بالمحاكم
-تنقيح القوانين في اتجاه تقنين رقمنة الإجراءات
– تكوين رقمي شامل لجميع الشركاء في منظومة العدالة كتفعيل التعامل الرقمي واقعيا داخل مكاتب جميع المتعاملين والمستفيدين مع المرفق القضائي من محامين و عدول إشهاد و عدول تنفيذ و خبراء
– احداث منظومة ارشادية  تسمح بإعلام كافة المتداخلين مع المرفق القضائي بإجراءات التقاضي الالكتروني  –

من مداخلة الأستاذ مهدي اللواتي المحامي و الخبيرفي الأمن الرقمي و حماية المعطيات الشخصية على هامش ملتقى المحامي الشاب الواقع تنظيمه بسوسة يومي 17 و 18 جوان 2022 .